الأربعاء، ١٢ مارس ٢٠٠٨

ياحديد قولي رايح علي فين للكاتب عصام دربالة

كنت أسير مع أحد أصدقائي فإذا به يتابع ببصره جراراً محملاً بأطنان من أسياخ الحديد وأخذ يقول: "يا حديد قولي رايح على فين؟ " محاكياً بذلك أغنية كنا نسمعها في صبانا للمطرب محمد عبد الوهاب كان يقول فيها: "يا وابور قولي رايح على فين؟ فقلت لصديقي: الحديد سيذهب إما إلي تاجر أو إلي مقاول, فرد سريعاً: ليس هذا قصدي, الذي يهمنى سعر الحديد, ولا أحد يعلم رايح على فين.
أدركت حقيقة الأمر, التي تمثل كابوسا ً مزعجاً لقطاعات عديدة من المصريين, فسعر الحديد ارتفع خلال ثلاثة أشهر ستة ألاف من الجنيهات بعد أن كان لا يتعدي سعر الطن الواحد في ديسمبر 2007م ثلاثة ألاف وستمائة جنيه.
- هذه الزيادة الرهيبة في تلك الفترة القصيرة ذكرتني بحالة الضيق والجزع التي انتابت صديقاً أخر عندما سمع بها فإذا به يصب جام غضبه على الحديد ومنتجيه وموزعيه, فقلت له: أنت ناقد أدبي وليس لك دخل بالتجارة أو المقاولات فلم كل هذا الضيق؟
أجابني وكله حسرة وأسي: هذا معناه ببساطة أن مشروع زواجي سيتأجل أو يلغي, فزيادة سعر الحديد لا تعني سوي زيادة ثمن الشقق التمليك أو ارتفاع إيجارها بما لا يدخل في حدود إمكانياتي المتواضعة.
• ارتفاع الأسعار ظاهرة عامة:
وارتفاع الأسعار خلال الأشهر الثلاثة الماضية ظاهرة لا تقتصر على الحديد فحسب؛ فهناك زيادات في أسعار أغلب السلع الغذائية وغير الغذائية بنسب متفاوتة في القسوة.
ولا شك أن هناك أسباباً موضوعية وأخري غير موضوعية تقف وراء تلك الزيادات الرهيبة في الأسعار فظاهرة زيادة الأسعار لأي سلعة قد يفسرها عدم التناسب بتلك المعروض منها والطلب المتزايد عليها, أو زيادة تكلفة المواد الخام أو الأجور المشاركة في إنتاجها أو استيرادها, وهذه بعض الأسباب الموضوعية المفسرة لبعض جوانب هذه الظاهرة.
- أما الأسباب غير الموضوعية فتتمثل في المقام الأول في الطمع الذي يدفع مستوردي السلع أو منتجها أو موزعيها إلي المغالاة في سعرها بما يحقق لهم أكبر قدر من الأرباح وهذا يؤدي إلي ظهور الممارسات الاحتكارية أو تخزين السلع, وعدم عرضها للجمهور إلي غير ذلك من الممارسات السيئة.
- وهذا التفريق بين الأسباب الموضوعية وتلك غير الموضوعية يساعدنا في تحديد كيفية المعالجة لهذه المشكلة الكبرى, فالأسباب الموضوعية تحتاج إلي توضيح وتبيين للرأي العام, أما الأسباب غير الموضوعية فتحتاج إلي اتخاذ إجراءات من قبل السلطات العامة لمنع مثل هذه الزيادات غير المبررة في أسعار السلع.
• ارتفاع أسعار الحديد كنموذج:
ولتطبق ذلك على الحديد كسلعة حيوية زادت أسعارها بشكل رهيب خلال اقل من ثلاثة أشهر. فلقد انبري البعض من أصحاب مصانع الحديد مدافعاً عن تلك الزيادات المتتالية انطلاقاً من ارتفاع سعر خام الحديد "البليت" في الأسواق العالمية مع زيادة الطلب العالمي عليه, بل إن أحد ممثلي هذه المصانع المصرية المنتجة للحديد دافع عن زيادة أسعار الحديد الذي تنتجه مصانع عز للحديد بأنه لو انخفض سعر حديد "عز" لأفلست كل المصانع الأخرى المنتجة للحديد في مصر لأنها تعتمد على حديد الخردة في الإنتاج وتكلفة الطن منه أكبر من كلفة إنتاج طن الحديد الخام, بالإضافة إلي ذلك فإن الدولة قررت رفع الدعم عن أسعار الطاقة التي تزود بها هذه المصانع مما زاد من تكلفة الإنتاج تبعاً لذلك.
وفي المقابل اعتبر بعض الخبراء والمتخصصون في هذا الشأن أن تلك الزيادات لا ترجع إلي زيادة سعر خام الحديد عالمياً, لأن طن الخام من الحديد يتم استيراده بسعر 131 دولار فقط مما يعني أن السعر العادل لبيع الطن بعد تصنيعه وبما يحقق ربحاً مجزياً لمنتجه لا ينبغي أن يزيد عن 3500 جنية للطن, وأن الزيادة فوق ذلك تمثل جشعاً غير مقبول لم يكن ممكناً تحقيقه إلا في ظل احتكار شركة عز لإنتاج الحديد المصنع من الخام "البليت"
أما الحكومة المصرية فقد توعدت باتخاذ إجراءات مماثلة لما اتخذتها مع شركات الأسمنت والتي أصارت عدداً من أعضاء مجالس إداراتها ومن يري المبيعات والتسويق وبعض الوكلاء إلي النائب العام ومن ثمًّ إلي محكمة الجنايات بتهمة الاحتكار والتواطؤ على رفع الأسعار.
وأخيراً عندما زادت أسعار الحديد بصورة لم يتخيلها أحد أحالت الحكومة عدداً من الوكلاء الموزعين للحديد على مستوي الجمهورية إلي النائب العام بتهمة بيع الحديد بأسعار تزيد كثيراً عن أسعار تسليم الحديد بالمصنع؛ بما يعني تحميل الوكلاء الموزعين لهذه التهمة وتبرئة ساحة الشركاء وأصحابها.
ومن العرض السابق يظهر لنا تداخل الأسباب الموضوعية مع الأسباب الأخرى في المسئولية عن رفع سعر الحديد خلال الفترة الماضية مما كان يستوجب اتخاذ إجراءات على أكثر من صعيد كالأتي:
ضرورة إعلان الحكومة عن مدي صحة وحقيقة الإدعاء بأن ارتفاع سعر خام الحديد عالمياً يقف وراء زيادة سعر الحديد, وإعلانها عن نسبة تأثير هذا الأمرـ إن وجد ـ في زيادة أسعار الحديد الأخيرة, وذلك لإمداد الرأي العام بالمعلومات الصحيحة من ناحية, ومن ناحية أخري لدرء شبهة التواطؤ مع بعض منتجي الحديد المتنفذين في الحزب الحاكم.
ضرورة تفعيل قوانين منع الاحتكار وحماية المستهلك.
السماح بدخول منافسين جدد بمنح تراخيص جديدة لإنتاج الحديد وهو ما قامت به الحكومة من فترة بسيطة لكن لن تظهر نتائجها الإيجابية إلا بعد سنوات من الآن.
زيادة الأجور بما يتناسب مع زيادة الأسعار مع التنبه إلي أن الزيادة بمفردها لا تمثل حلاً لهذه المشكلة لأن أرباب السلع والتجار اعتادوا على رفع أسعار السلع بمجرد الإعلان عن أي زيادة في الأجور.
ضرورة تفعيل دور الحكومة في ضبط الأسعار و ذلك من خلال قوانين محددة تسمح بالتسعير الجبري للسلع التي يزيد ربح المنتج فيها عن نسبة معينة, أو بإلغاء الترخيص للتاجر المتلاعب في السعر لفترة أو بصفة دائمة وفقاً لجسامة المخالفة.
• لب المشكلة:
ولبُ مشكلة ارتفاع الأسعار يكمن في أن الأسواق الآن لا ضابط لها ولا رقيب عليها ؛وذلك انطلاقاً من فلسفة اقتصاد السوق والخصخصة, وبما يعني أن أي تدخل حكومي في ضبط إيقاع السوق سيفهم على إنه عودة إلي أيام الاشتراكية والتأميم؛ مما سيؤدي إلي هروب رؤوس الأموال والمستثمرين, وتعرض البلاد للعقوبات من منظمة الجات, ومن ثم فإننا نجد الحكومة مترددة في اتخاذ الخطوات الواجب اتخاذها في هذا الشأن.
- ولقد صدق من قال ـ وبحق ـ إننا في مصر أوغلنا في تطبيق سياسات الحماية والتأميم والتسعير الجبري إبان الحقبة الاشتراكية, وأننا اليوم نوغل في الاستسلام لمقتضيات الخصخصة بصورة مضرة بالسلم الاجتماعي, والواجب أن نأخذ بجانب الخصخصة بإجراءات لحماية المستهلك دون أن يكون ذلك نكوصاً عن الأخذ بنظام السوق الحر, أو عودة لأيام التأميم.
• الإسلام والتسعير:
وقد يقول قائل لكنكم معشر الإسلاميين تقولون بعدم جواز التسعير انطلاقاً من قول رسول الله صلي الله عليه وسلم لمن قال له: يا رسول الله سعر لنا عندما نملأ السعر, فقال له:"بل ادعوا الله" ثم جاءه رجل فقال: يا رسول الله سعر لنا فقال:"إن الله هو المسعر القابض الباسط, وإني لأرجو أن ألقي الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ومال" قال الترمذي :حسن صحيح.
وللإجابة عن هذا نقول:
نعم الأصل في الإسلام عدم التسعير, وإلي هذا ذهب أكثر العلماء من المذاهب المختلفة واستدلوا بهذا الحديث على ذلك المنع, لكن هناك من المدققين من العلماء كابن تيمية وابن القيم من رأي أن هذا الحديث يعالج الحالة التي لا يكون ارتفاع السعر فيها ناشئاً عن التجار ومغالاتهم عند بيع السلع, أما الحالة التي يكون ارتفاع السعر فيها ناشئاً عن مغالاة التجار بما يضر بعوام الناس في أقواتهم فلا بد أن يتدخل ولي الأمر مع أهل الخبرة في تحديد السعر المناسب الذي لا يجحف بالتجار أو أموال المسلمين, وله أن يقيم من السوق من يرفع السعر بصورة فيها ضرر على أهل الأسواق أو عموم المشتركين وهو إجراء أشبه بسحب الترخيص في أيامنا هذه ولو بشكل مؤقت.
وهذا القول يستند إلي قول النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ في الصحيحين: إن النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ منع من الزيادة على ثمن المثل في عنق الحصة من العبد المشترك فقال: "من أعتق شركاً له في عبده ـ وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبدـ قوم عليه قيمة عدل لا وكس ولا شطط فأعطي شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد".
وهذا الحديث أصل في أن من وجبت عليه المعاوضة أجبر على أن يعاوض بثمن المثل لا بما يريده هو من الثمن.
وهذا التفصيل يبين واقعية الشريعة الإسلامية في التعامل مع الواقع بصورة تغطي كل الاحتمالات وتفرق الأحكام بين الحالات المختلفة بما يحقق مصالح البلاد والعباد.
• راجع بحثاً قيماً عن تلك القضية في: كتاب الأستاذ الدكتور على أحمد السالوس" فقه البيع والاستيثاق والتطبيق المعاصر, الصادر عن مؤسسة الريان للطباعة ودار الثقافة بقطر ومكتبة دار القرآن الكريم بمصر, الطبعة الرابعة 1427 ﻫ 2006م, ص72
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكاتب عصام دربالة نقلاً عن جريدة المصريون الالكترونية